بسم الله الرحمن الرحيم
لقاء يتجدد ترحل به قلوبنا وأرواحنا ووجداننا، ترحل به إلى هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع رسول الله في دعوته، هذه الدعوة التي كان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ملحمة في الصبر، دأب وطول الأمل واليقين والثبات، هذه المعاني ليست معاني مجردة نذكرها سرداً وعداً لكنها حقائق تشرق من حال النبي صلى الله عليه وسلم.
عندما نتقفى هذه السيرة نفوسنا ظمئة يرويها أن ترد معين السيرة ومعين حال النبي صلى الله عليه وسلم فتتروى من هديه وهداه، نحن أحوج ما نكون إلى أن نورد قلوبنا المكدودة معين سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد هناك مستراحها وأنسها، ولذلك استنهض نفوسكم أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات أن نذهب إلى هناك، نرحل مع خبر تقصه علينا أمنا عائشة.
أمنا تستنطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستروي خبره فيخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تستقرئه وتسترويه مسيرته مع دعوته، تستروي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تحضره من أحواله وقصته مع الدعوة، تفتح وعي أمنا عائشة رضي الله عنها مع الرسول والرسالة على حوادث وافتها لحداثة سنها وصغر عمرها، أحداث أخر ولذلك كان أشد ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم مما أدركه وعي عائشة يوم أحد وإذا بها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما قبل يوم احد، فتقول له : يا رسول الله هل مر عليك يوم هو أشد عليك من يوم أحد؟ سؤال من أمنا عائشة وكانت صغيرة السن لكنها عبقرية ذكية ولماحة، هي تعلم ماذا لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، في يوم أحد شج جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كسرت رباعيته، غاصت حلقتان من حلقات المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم.
صرع أصحابه حوله، وقف على جثمان عمه حمزة أحب الناس إليه وخيرة أهل بيته، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جثمانه وقد بقر بطنه، واستخرجت أحشائه، ومثل به، فوقف صلى الله عليه وسلم كاسفاً حزيناً على هذا الجثمان الطاهر وهو يقول: لن أصاب بعد اليوم بمثل مصيبتي فيك.
كل هذا أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، فهل أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أشد من ذلك؟ يا رسول الله هل أصابك ما هو أشد عليك مما أصابك يوم أحد، سؤال أمنا عائشة فما كان الجواب، ماذا كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنما تنكأ جراحاً غائرة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد لقيت من قومك أذى شديداً كأنما كان سؤال عائشة يسترجع ذكريات مضى عليها زمن طمرتها السنين، فإذا بعائشة تستثيرها وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يجيب وكأنما عادت هذه المشاهد حية أمام ناظريه صلى الله عليه وسلم، لقد لقيت من قومك أذى كثيراً يعني نعم، مر عليّ ما هو أشد من يوم أحد فما الذي كان أشد من يوم أحد، ما الذي كان أشد من جرح في الجبين وكسر السن وأن تغار حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن يرى أصحابه يصرعون حوله وأن يقف على جثمان عمه حمزة مشوهاً ممثلاً به، ما هو أشد من ذلك أشد من ذلك ما سيرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد من ذلك يوم عرضت دعوتي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال، ما هو خبر هذه الدعوة وخبر هذا العرض، نحتاج أن نذكر ما لم يذكر ونظهر المضمر، فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أزيد من عشر سنين قبل الهجرة وهو يدعو قريشاً ويصبر لها ويصابرها عشر سنين في دعوة وثبات وصبر على الأذى، حتى جرأ سفهاء قريش وملؤها على أنواع من أذى النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً بعد موت عمه أبي طالب، جرؤوا عليه جراءة شديدة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طول الصدود وكثرة الجحود، إذا به يبحث عن تربة يلقي فيها بذرة دعوته لعله يستنبت هذه الدعوة في أرض أخرى فتنمو فيها وتورق.
خرج من مكة إلى الطائف عله أن يجد في الطائف أذاناً صاغية تستجيب لدعوته وتتبع رسالته وتحمل هديه وهداه ودينه، خرج من مكة ماشياً إلى الطائف يقطع طريقاً يزيد الآن على مائة كيلو من الطريق المعروف الآن بطريق السيل، وكان يسمى أولا وادي نخلة، طريق وادي نخلة الذي هو طريق السيل الآن ووادي نخلة هو الذي يسمى الآن الزيمة، قطعه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مولاه زيد ابن حارثة مشياً على الأقدام في وقت الصيف القائض، حتى وصل إلى الطائف وبقي هناك عشرة أيام يعرض فيها دينه ويبلغ رسالته، يغشاهم في نواديهم ويغشاهم في مجتمعاتهم يقرأ عليهم القرآن حتى قال بعض أهل الطائف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف يقرأ والسماء والطارق فحفظتها وأنا مشرك وقرأتها وأنا مسلم.
عشرة أيام قضاها النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه إلا بالصدود والإعراض فلما خشي ملأ أهل الطائف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستميل الناس إليه أغروا به سفهائهم فردوا عليه أقبح الرد، حتى قال له بعضهم أما وجد الله غيرك رسولاً فيرسله إلينا، فلما أغروا به سفهائهم فواجهوه بأقبح الرد إذا به صلى الله عليه وسلم وهو يواجه بهذا الصدود وهذا الإعراض يرجع حزيناً مكلوم الفؤاد مغموم النفس، وهو الذي خرج من مكة بعد أن جحده قوم أهل الملأ فيها وجرؤوا عليه بالأذى أملاً أن يجد في الطائف مستنبتاًً لدعوته فيصد بهذا الصدود ويقابل بهذا الجحود، فإذا به صلى الله عليه وسلم وهو الحامل لهم رسالته يغتم لذلك أشد الغم، ويحزن لذلك أشد الحزن، وتتراكب الهموم على القلب الكريم الطيب فلا يتنفس ولا ينفس عن ذلك إلا بدعوات يصدع بها السماء "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبة حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
دعاء مكروب مغموم يصدع السماء، ثم ينقلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد عشر ليال طوال قضاها في الدعوة والمصابرة يرجع إلى مكة لكن كيف كان الرجوع، ويسير في الطريق ولكن كيف كان المسير، كيف قطع الطريق من الطائف عائداً إلى مكة، مكة التي خرج منها وبمرأى وبمسمع من أهلها يرونه ويعلمون إلى أين سيذهب وما هي قضيته وما هو هدفه في ذهابه إلى الطائف، وسيرجع إليهم وقد سبقته إليهم أخبار أهل الطائف معه، فكيف سيدخل إلى بلد وكيف سيلقى قومه وهم الذين كانوا جرؤوا عليه فكيف سيكون حاله بعد أن يرجع إليهم، ولذلك عاد مكروباً مغموماً فإلى أي درجة بلغ غمه وعلى أي حال كان حزنه.
يصف ذلك فيقول "فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب"، قرن الثعالب هو السيل الكبير يبعد عن الطائف ستة وأربعين كيلو قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشياً، ولكنه كان في حال من الاستغراق مع غمه وهمه وحزنه لأجل دعوته بحيث أنه لم يستفق ولم يشعر بما حوله إلا وهو في قرن.