﴿عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 187).
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي- صلى
الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال:
هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، فقال: فهل تجد ما
تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، فقال: تصدق
بهذا، قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا،فضحك النبي- صلى الله عليه وسلم-
حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك" (صحيح الإمام مسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان: 2/781 رقم 1111).
ورُوي هذا الحديث من وجه آخر عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- قالت: "أتى رجل إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- في المسجد في رمضان، فقال: يا رسول الله، احترقت احترقت، فسأله رسول
الله- صلى الله عليه وسلم-: ما شأنه؟ فقال: أصبت أهلي، قال: تصدق، فقال: والله يا نبي الله ما لي من
شيء، وما أقدر عليه، قال: اجلس، فجلس، فبينا هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أين المحترق آنفًا؟ فقام الرجل، فقال رسول الله- صلى الله عليه
وسلم-: تصدق بهذا، فقال: يا رسول الله أغيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء، قال: فكلوه" (صحيح الإمام مسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان: 2/783 رقم 1112).
اذكروا أن من أحكام الصيام الأولى أن على الصائمين أن يمسكوا عن أن يصيب أحدهم أهله طول شهر رمضان، أو أن الصائم إذا صلى العشاء الآخرة أو نام قبلها لم يحلُّ له بعد ذلك أن يطعم أو يشرب أو يقرب أهله، وكان ذلك أمرًا شاقًّا عليهم؛ فكان بعضهم لا يصبر عليه، وقد يخالف هذا الأمر بينه وبين نفسه.
ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أهله بعدما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم
نفسه، ثم أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة،
إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء، فوجدت رائحة طيبة، فسوَّلت لي نفسي، فأصبت أهلي"
، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ما كنت بذلك جديرًا يا عمر!!"، فقام رجالٌ فاعترفوا بمثل ذلك، فأنزل
الله بعد ذلك الآية الكريمة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ
اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 187) (انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/302، 303).
شعورٌ دقيقٌ بمعاني الخير والشر، وإدراكٌ واضحٌ لدقائق البر والإثم، وتقديرٌ بالغ لرقابة الله العلي الكبير،
وسلطانٌ غالب للدين على هذه النفوس الطيبة، واعترافٌ بضعف الإنسان.. هو في ذاته قوةٌ في الإرادة
تؤدي إلى السماح والغفران، ذلك ما تعطيه هذه الآثار التي تروي (غير واضحة في الأصل) حال المجتمع
الإسلامي على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاف الرجل الأول فأقرَّ واعترف، وخالف عمر
فبكى وندم، وكان رجال آخرون يتأوَّلون ولا يدركون أن فيما يفعلون مخالفةً صريحةً لتعاليم الدين، فلما
أدركوا ذلك وتبيَّنوه من عتاب النبي- صلى الله عليه وسلم- لعمر قاموا فاعترفوا كذلك يريدون أن يتطهَّروا
بهذا الاعتراف، ويحملون في شجاعة تبعةَ ما ارتكبوا من إثمٍ وإجحافٍ.
ولقد روي عنهم في ذلك كثير من الآثار؛ مما يدل على أنهم- رضوان الله عليهم- كانوا في هذا الوصف
سواءً، وصف الشعور الدقيق بالبر والإثم والإقرار على أنفسهم بما يفعلون؛ رجاءَ التطهُّر بالعقوبة أو
العفو؛ فلم يكن أحدهم يحاول أن يفرَّ من تبعته، أو يتخلَّص بالإنكار والزور من آثار خطيئته.
ولا تريد القوانين الاجتماعية من الناس أكثر من هذا، أكثر من أن يرِقَّ شعورهم حتى يميزوا بين الخير
والشر، وتتهذَّب نفوسهم فتألم وتندم إذا قارفت إثمًا، وتسرّ وتفرح إذا أصابت إحسانًا.
وتقديرًا لهذا المعنى الكريم في نفس الرجل المذنب عفا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذه
الزلاَّت، فطالب في الصورة الأولى بالكفَّارة، فلما لم يجدها قام بها عن صاحبها، فلما وجده أحقَّ الناس
بها وهبَه إياها، ولم يزد في الصورة الثانية على هذا العقاب الرقيق "ما كنت بذلك جديرًا يا عمر"،
وضاعف الله نعمته، وأوسع لهم من فضله؛ فأباح لهم ما كان قد حرم عليهم من قبل؛ فهل رأيت أسمح من
هذا؟ إنها سماحة في التشريع والتطبيق تليق بهذه السماحة في المشاعر والنفوس، ولو أنصف الناس استراح القاضي.
فيا أيها المتعصِّبون بآثار الخطيئة..
﴿لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: من الآية 53)، اندَموا
على خطيئتكم، واعترِفوا لربكم بذنوبكم، وسَلوه أن يغفر لكم، واصدقوا في التوجه، وتوبوا إليه توبة
نصوحًا، وثِقوا بعد ذلك من القبول والمغفرة إن شاء الله ﴿وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ (الشورى: 25- 26).
( ســـبـــحــان الــلــه وبــحــمــده ســبــحــان الــلــه الــعــظــيـــم)