,
و إذا كنت أحاول تفادي فضيحة هذا الحزن المتفاقم ، إنما لكي أبدو أمام نفسي متوازناً قادراً على الاحتفاظ بأسرار الروح لنفسي .. لها وحدها. لا أحد يرغب في أن يكون حزنه مشاعاً إلى هذا الحد، لكنني لم أعد قادراً على تفادي الهزيمة. إنه حزن مهيمن، ولابد لي من أن أتعامل معه كشخص آخر، شخص قوي الشكيمة، غزير التجربة، جديرٌ باحترامٍ يخلعه المبتدأ على الخبر في جملة الناس.
قلت له ذات فرح نادر : كيف يحلو لك أن تنام في سريري وترتدي قميصي وتضع كلامك في كتابي، دون أن تتيح لي فسحة من حرية النوم في بهجة الحياة، ودون أن أبدو مزدوجاً؟ ثمة الحب الذي تحبه وثمة الحب الذي يحبك، أيهما يضع يده على قلبك، أيهما لك وأيهما عليك، قل لي؟! فلم يكترث بي. وضع يده في قلبي وأخرج فلذة وبسطها أمامي قائلاً، بسخرية من يَفْري لحمه النصلُ فيغتصب ابتسامة مبهمة لئلا يجهش بالبكاء : كيف تزعم برغبة الفرح وفي قلبك كل هذه الجراح، من أين لك أن تتقمّص ما ليس لك وما لم تعرف مذاقه وما هو مقسومٌ لغيرك ؟" كان فادحاً وهو يستدرجني في شارع الناس، حيث الأحزان فضيحة دائمة التألق، فكل من تشاغله شهوةُ النوم لن يخلو ليله من الكوابيس. حزنٌ حزينٌ مضرّجٌ بنفسه، يطوف الشوارع يجهرُ بالنشيد في الناس، ويبالغ حتى يغمر صوته الأزقة وتلوح قمصانه في الأعالي، بشارةً لكل من لم يفقد عزيزاً بعد، عليه أن يتهيأ لذلك، فهذا الحزن الكثيف منذ المهد لابد أنه يدخر المفاجآت فاتحاً الطريق نحو اللحد. ما من فسحة لفرح وحزن صارم مثل هذا يحدق بي في شارع الناس. حزن يستفرد بالروح ويهزم الجسد، مستبسلاً كأنه لا يجد في اللغة كلمة أقل رأفة من الحب، فيغمدها في الجرح القديم، ويفّرك بها الدم حتى ينزف زرقته كاملةً، دون أن يتاح لي برهة التشبث بهواءٍ ينفد نأمة نأمة. فهذا حزن لا يعرف النوم ولا تنقذه غفلة الليل.
*
قاسم حداد / نقد الأملْ ( حزنٌ طووويل القامَه ) :s38: